ألقى صاحب الجلالة الملك محمد السادس يوم الأربعاء06/01/2004 بالقصر الملكي بأكادير خطابا ساميا بمناسبة تنصيب هيأة الإنصاف والمصالحة
وفي ما يلي نص الخطاب الملكي السامي :
" الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه حضرات السيدات والسادة، تجسيدا لإرادتنا الملكية الراسخة، في تحقيق المزيد من المكاسب، للنهوض بحقوق الإنسان، ثقافة وممارسة، ها نحن اليوم، بتنصيب لجنة الإنصاف والمصالحة، نضع اللبنة الأخيرة للطي النهائي لملف شائك، ضمن مسار انطلق منذ بداية التسعينات، والذي شكل ترسيخه أول ما اتخذناه من قرارات، غداة اعتلائنا العرش .
ومع استحضار اختلاف التجارب الدولية في هذا المجال، فإن المغرب قد أقدم، بحكمة وشجاعة، على ابتكار نموذجه الخاص ، الذي جعله يحقق مكاسب هامة، في نطاق استمرارية نظامه الملكي الدستوري الديمقراطي، الضامن لحرمة الدولة والمؤسسات، وحريات الإنسان وكرامته، مما تجلى خاصة في العفو عن المعتقلين السياسيين، وتسوية أوضاعهم المهنية والإدارية، وعودة المنفيين والمغتربين، وتعويض ضحايا الاعتقال التعسفي أو الاختفاء القسري والبحث في مصيرهم.
ونود في هذا الصدد، الإعراب عن بالغ إشادتنا بصانعي هذه المكاسب، دولة ومجتمعا، مستحضرين بكل إجلال وخشوع، رائد هذا المسلسل، والدنا المنعم، جلالة الملك الحسن الثاني، خلد الله في الصالحات ذكره، ومنوهين أيضا بمن ساهموا في هذا البناء، إن على مستوى السلطات العمومية، أو على مستوى الهيئات السياسية والنقابية والجمعوية.
كما نود الإشادة بما قامت به الهيأة المستقلة للتحكيم من أعمال جليلة للتعويض عن الأضرار المادية والمعنوية، مؤسسة بذلك رصيدا غنيا مشهودا به، وطنيا ودوليا وهو ما سيمكن لجنة الإنصاف والمصالحة، من الانطلاق على أرضية ثابتة، لاستكمال عمل الهيأة السابقة. وسنظل حريصين على الطي النهائي لهذا الملف، بتعزيز التسوية العادلة غير القضائية، وتضميد جراح الماضي، وجبر الضرر، بمقاربة شمولية، جريئة ومتبصرة، تعتمد الإنصاف ورد الاعتبار، وإعادة الإدماج، واستخلاص العبر والحقائق لمصالحة المغاربة مع ذاتهم وتاريخهم، وتحرير طاقاتهم، للإسهام في بناء المجتمع الديمقراطي الحداثي، الذي يعد خير ضمان لعدم تكرار ما حدث.
إن العمل الذي قامت به اللجنة السابقة والتقرير النهائي الذي ستنجزونه من أجل الاحاطة بوقائع في أجل محدود، يجعلنا نعتبر هيأتكم بمثابة لجنة للحقيقة والإنصاف، مستشعرين نسبية بلوغ الحقيقة الكاملة، التي تمتنع حتى على المؤرخ النزيه، علما بأن الحقيقة المطلقة لا يعلمها إلا الله سبحانه، مصداقا لقوله تعإلى .. "يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور".
وعلى هذا الأساس ، فإن هذه اللجنة، ستجد لدى جلالتنا الرعاية السامية، لما ينتظرها من مهام دقيقة ولما هو مشهود لرئيسها السيد إدريس بنزكري، ولكافة أعضائها من تجرد ونزاهة أخلاقية، وتشبث صادق بحقوق الإنسان، ومن كفاية عالية في المجال الواسع لاختصاص هذه اللجنة، التي حرصنا على انفتاحها، بتكوينها بالتساوي، من أعضاء المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان ومن كفاءات متنوعة المشارب والاختصاص ، موحدة المقاصد في الدفاع عن هذه الحقوق.
كما نود أن نعبر عن جزيل شكرنا وعميق تقديرنا لأعضاء هذه الهيئة معربين عن صادق ابتهاجنا لانخراطهم جميعا، بروح عالية من الثقة، في مبادرتنا هاته، بكل حماس واستعداد تام للاسهام في إنجاح هذه المهمة النبيلة.
وإننا لمقتنعون بأن هيأتكم المشكلة من شخصيات مرموقة، ستتوصل بعون الله وتوفيقه في الآجال المحددة، إلى إعادة الاعتبار لكرامة الضحايا، ومواساة عائلاتهم وتحقيق المصالحة السمحة الكاضمة للغيظ. وستتمكن من الاستفادة الإيجابية مما تحقق من مكتسبات، وترسيخها لتحقيق تسوية عادلة ومنصفة، إنسانية وحضارية، ونهائية لهذا الملف، ملتزمة في وضعها لنظامها الداخلي، ونهوضها بمهامها النبيلة، بقرار إحداثها، وبالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وبقيم الإسلام المثلى في السماحة والعفو والصفح الجميل.
وتلكم هي السبيل القويم لترسيخ روح المواطنة الايجابية، وجعل الديمقراطية وحب الوطن وإشاعة ثقافة حقوق وواجبات الإنسان، خير تحصين لمجتمعنا من نزعات التطرف والإرهاب، التي نحن مصممون على مواجهتها، بحزم الساهرين على صيانة الأمن والاستقرار، في ظل سيادة القانون، وتحرير الطاقات الكفيلة بجعل المغاربة قاطبة، في انسجام تام مع تطلعات وطنهم، ورفع ما يواجهه، من تحديات داخلية وخارجية.
وإننا لنعتبر هذا الإنجاز تتويجا لمسار نموذجي وفريد من نوعه، حققناه جميعا، في ثبات وثقة بالنفس ، وجرأة وتعقل في القرار، وتشبث بالديمقراطية، من لدن شعب لا يتهرب من ماضيه، ولا يظل سجين سلبياته، عاملا على تحويله، إلى مصدر قوة ودينامية لبناء مجتمع ديمقراطي وحداثي، يمارس فيه كل المواطنين حقوقهم وينهضون بواجباتهم بكل مسؤولية وحرية والتزام.